الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)
.ذكر تمام الصلح: ولما وصل العدل إلى هناك أنزل خارج البلد في خيمة حتى أعلم الملك به، فلما علم به استحضره عنده مع بقية الجماعة وعرض العدل عليه النسخة وهو مريض الجسم، فقال: لا طاقة لي بالوقوف عليها وأنا قد صالحت وهذه يدي فاجتمعوا بالكندهري والجماعة وأوقفوهم على النسخة ورضوا بلد والرملة مناصفة وبجميع ما في النسخة واستقرت القاعدة أنهم يحلفون بكرة يوم الأربعاء بأنهم كانوا قد أكلوا شيئاً وليس من عادتهم الحلف بعد الأكل وأنفذ العدل إلى السلطان من عرفه ذلك.ولما كان يوم الأربعاء الثاني والعشرون من شعبان حضر الجماعة عند الملك وأخذوا يده وعاهدوه، واعتذر أن الملوك لا يحلفون، وقنع السلطان بذلك ثم حلف الجماعة والمستحلف الكندهري ابن أخته المستخلف عنه في الساحل وباليان بن بارزان صاحب طبرية، ورضي الأسبتار والداوية وسائر مقدمي الإفرنجية بذلك وساروا بقية يومهم عائدين إلى المخيم السلطاني فوصلوا العشاء الآخرة وكان الواصلون من جانبهم ابن الهنغري وابن بارزان وجماعة من مقدميهم فاحترموا وأكرموا وضربت لهم خيمة تليق بهم، وحضر العدل وحكى ما جرى.ولما كانت صبيحة الثالث والعشرين حضر الرسل في خدمة السلطان وأخذوا بيده الكريمة وعاهدوه على الصلح على القاعدة المستقرة، واقترحوا حلف جماعة وهم الملك العادل والملك الأفضل والملك الظاهر عن نصرهم والمشطوب وبدر الدين دلدرم والملك المنصور ومن كان مجاوراً لبلادهم كابن المقدم وصاحب شيزر وغيرهم، فوعدهم السلطان أن يسير معهم رسلاً إلى الجماعة المجاورين ليحلفوهم لهم، وحلف لصاحب أنطاكية وطرابلس، وعلّق اليمين بشرط حلفهم للمسلمين فإن لم يحلفوا فلا يدخل في الصلح.ثم أمر المنادي أن ينادي في الوطاقات والأسواق ألا أن الصلح قد انتظم في سائر بلادهم فمن شاء من بلادهم أن يدخل إلى بلادنا فليفعل، ومن شاء من بلادنا أن يدخل إلى بلادهم فيفعل، وأشار رحمة الله عليه أن طريق الحج قد فتح من الشام ووقع له عزم على الحج في ذلك المجلس وكنت حاضراً ذلك جميعه، وأمر السلطان أن تسير مائة نقاب لتخريب سور عسقلان معهم أمير كبير ولإخراج الإفرنج منها ويكون معهم جماعة من الإفرنج إلى حين وقوع الخراب في السور خشية استبقائه عامراً. وكان يوماً مشهوداً غشي الناس من الطائفتين فيه من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى، والله العظيم إن الصلح لم يكن من إيثاره، فإنه قال لي في بعض محاوراته في الصلح أخاف أن أصالح وما أدري أيّ شيء يكون مني فيقوى هذا العدو وقد بقيت لهم هذه البلاد فيخرجوا لاسترداد بقية بلا دهم ونرى كل واحد من هؤلاء الجماعة قد قعد في رأس قلعته يعني حصنه وقال لا أنزل فيهلك المسلمون. هذا كلامه وكان كما قال، لكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر وتظاهرهم بالمخالفة وكانت مصلحة في علم الله تعالى، فإنه اتفقت وفاته بعيد الصلح، ولو كان اتفق ذلك في أثناء الوقعات لكان الإسلام على خطر، فما كان الصلح إلاّ توفيقاً وسعادة له..ذكر خراب عسقلان: ولما كان الخامس والعشرون من شعبان ندب السلطان علم الدين قيصر إلى خراب عسقلان، وسيّر معه جماعة من النقابين والحجارين واستقر أن الملك ينفذ من يافا من يسير معه ليقف على التخريب ويخرج الإفرنج منها فوصلوا إليها من الغد فلما أرادوا التخريب اعتذر الأجناد الذين بها بأن لنا على الملك جانكية لمدة فإما أن يدفعها إلينا ونخرج أو ادفعوها أنتم إلينا، فوصل بعد ذلك رسول الملك يأمرهم بالخروج فخرجوا ووقع التخريب فيها في السابع والعشرين من شعبان واستمر يخربها وكتب على الجماعة رقاعاً بالمعاونة على التخريب وأعطى كل واحد قطعة معلومة في السور وقيل له دستورك في تجريبها.ولما كان التاسع والعشرون رحل السلطان إلى النطرون واختلط العسكران وذهب جماعة من المسلمين إلى يافا في طلب التجارة ووصل خلق عظيم من العدو إلى القدس للحج وفتح لهم السلطان الباب وأنفذ معهم الخفراء يحفظونهم حتى يردهم إلى يافا، وكثر ذلك من الإفرنج، وكان غرض السلطان بذلك أن يقضوا غرضهم من الزيارة ويرجعوا إلى بلا دهم فيأمن المسلمون من شرهم.ولما علم الملك كثرة من يزور منهم صعب عليه ذلك وسير إلى السلطان يسأله منع الزوار واقترح أن لا يؤذن لهم إلا بعد حضور علامة من جانبه أو كتابة، وعلمت الإفرنج ذلك فعظم عليهم واهتموا في الحج فكان يرد منهم في كل يوم جموع كثيرة مقدمون وأسباط وملوك متنكرون، وشرع السلطان في إكرام من يرد ومد الطعام ومباسطتهم ومحادثتهم وعرفهم إنكار الملك ذلك، واعتذر إلى الملك بأن قوماً قد وصلوا من بعد ذلك لزيارة المكان الشريف فلا أستحل منعهم، ثم اشتد المرض بالملك فرحل في ليلة التاسع والعشرين وسار هو والكندهري وسائر العدو إلى جانب عكا ولم يبق في يافا إلا مريض أو عاجز ونفر يسير..ذكر عود العساكر الإسلامية إلى أوطانهم: ولما انقضى هذا الأمر واستقرت القواعد أعطى السلطان الناس دستوراً وكان أول من سار عسكر إربل، فإنه سار في مستهل شهر رمضان المبارك، ثم سار بعده في ثانية عسكر الموصل وسنجار والحصن، أشاع أمر الحج وقوى عزمه على براءة الذمة، وكان هذا مما وقع لي وبدأت بالإشارة به، فوقع منه موقعاً عظيماً، وأمر الديوان وكل من عزم على الحج من العسكر أن يثبت اسمه حتى يحصر عدة من يدخل معنا في الطريق وكتب جرائد بما يحتاج إليه في الطريق من الخلع والأزواد وغيرها وسيرها إلى البلاد ليعدوها.ولما أعطى الناس دستوراً وعلم عود العدو رجع إلى ورائه رأى الدخول إلى القدس الشريف لتهيئة أسباب عمارته والنظر في مصالحه والتأهب في المسير إلى الحج، فرحل من النطرون يوم الأحد رابع يوم شهر رمضان وسار حتى أتى ماء صمويل يفتقد الملك العادل فوجده قد سار إلى القدس، وقد كنت عنده رسولاً من جانب السلطان أنا والأمير بدر الدين دلدرم والعدل، وكان قد انقطع عن أخيه بسبب مرضه، وكان قد تماثل فعرفناه مجيء السلطان إلى ماء صمويل لعيادته فحمل على نفسه وسار معنا حتى لقيه في ذلك المكان وهو أول وصوله إلى ماء صمويل ولم ينزل بعد فلقيه ونزل وقبّل الأرض وعاد فركب فاستدناه وسأله عن مزاجه وسار جميعاً حتى أتيا القدس الشريف في بقية ذلك اليوم..ذكر وصول رسول من بغداد: ولما كان يوم الجمعة الثالث والعشرون من شهر رمضان صلّى الملك العادل الجمعة وانصرف إلى الكرك عن دستور من السلطان لينظر في أحواله ويعود إلى البلاد الشرقية يدبّرها، فإنه كان قد أخذها من السلطان وكان قد ودّع السلطان، فلما وصل العازرية نزل بها مخيماً فوصله من أخبر أن رسولاً من بغداد واصل إليك فأنفذ إلى السلطان وعرفه فذكر له أن يجتمع ويطالع ما وصل فيه فلما كان السبت الرابع والعشرون دخل إلى الخدمة السلطانية وذكر أن الرسول قد وصل إليه من جانب ابن النافذ بعد أن ولي نيابة الوزارة ببغداد ومقصود الكتاب أنه يحثه على استعطاف قلب السلطان إلي لخدمة الشريفة والدخول بينه وبين الديوان العزيز والإنكار عليه بتأخر رسله عن العتبة الشريفة واقتراح تسيير القاضي الفاضل ليحضر الديوان العزيز في تقرير قاعدة تتحرر بينه وبين السلطان لا بد منها وقد وعد الملك العادل من الديوان بوعود عظيمة إذا قرر ذلك ويكون له يد عند الديوان يستثمرها فيما بعد وما يشبه هذا الفن فحدثت عند السلطان فكرة في إنفاذ رسول يسمع كلام الديوان ويستعلم سبب دخول الملك العادل في البين وزاد الحديث ونقص وطال وقصر وقوي العزم السلطاني على إنفاذ الضياء الشهرزوري وعاد الملك العادل إلى مخيمه بالعازرية بعد تقرير هذه القاعدة وعرفه إجابة السلطان إلى إنفاذ رسول إلى خدمة الديوان العزيز وسار يوم الاثنين طالباً جهة الكرك وسار الضياء متوجهاً إلى بغداد يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر رمضان..ذكر توجه ولده الملك الظاهر إلى بلاده ووحشة السلطان له: ولما كانت بكرة التاسع والعشرين توجه الملك الظاهر عز نصره بعد أن ودعه ونزل إلى الصخرة فصلى عندها وسأل الله تعالى ما شاء ثم ركب وركبت في خدمته فقال لي قد تذكرت أمراً أحتاج فيه إلى مراجعة السلطان مشافية فأنفذ من استأذن له العود إلى خدمته فأذن له في ذلك فحضر واستحضرني وأخلى المكان ثم قال له: أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس كل خير وآمرك بما أمر الله به فإنه سبب نجاتك وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها فإن الدم لا ينام وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم فأنت أميني وأمين الله عليهم وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد واحذر ما بينك وبين الناس فإنه لا يغفر إلا برضاهم وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه فإنه كريم. وكان ذلك بعد انصرفنا من خدمته ومضى من الليل ما شاء الله إن يمضي وهذا ما أمكنني حكايته وضبطه ولم يزل بين يديه إلى قريب السحر ثم أذن له في الانصراف ونهض ليودعه فقبل وجهه ومسح رأسه وانصرف في دعة الله ونام في برج الخشب الذي للسلطان وكنا نجلس عنده في الأحياء إلى بكرة وانصرفت في خدمته إلى بعض الطريق وودعته وسار في حفظ الله.ثم سير الملك الأفضل ثقله وأقام يراجع السلطان على لساني في أشغال كانت له حتى دخل في شوال أربعة أيام وسار في ليلة الخامس منه نصف الليل عن تعتب عليه جريدة على طريق الغور..ذكر مسيره رحمه الله من القدس الشريف: وأقام السلطان يقطع الناس ويعطيهم دستوراً ويتأهب للمسير إلى الديار المصرية وانقطع شوقه عن الحج وكان من أكبر المصالح التي فاتته ولم يزل كذلك حتى صح عنده إقلاع مركب الأنكتار متوجهاً إلى بلاده مستهل شوال فعند ذلك حرر السلطان عزمه على أن يدخل الساحل جريدة ويفتقد القلاع البحرية إلى بانياس ويدخل دمشق المحروسة يقيم بها أياماً قلائل ويعود إلى القدس الشريف سائراً إلى الديار المصرية يتفقد أحوالها ويقرر قواعدها وينظر في مصالحها وأمرني بالمقام في القدس الشريف لعمارة بيمارستان أنشأه فيه وإدارة المدرسة التي أنشأها فيه إلى حين عوده وسار من القدس الشريف ضحوة نهار الخميس سادس شوال وودعته إلى البيرة ونزل بها وأكل فيها طعاماً ثم أتى بعض طريق نابلس فبات فيه ثم أتى نابلس ضحوة نهار الجمعة سابع شوال فلقيه خلق عظيم يستغيثون من المشطوب ويتضورون من سوء رعايته لهم فأقام يكشف عن أحوالهم إلى عصر يوم السبت ثم رحل ونزل بسبصطية يتفقد أحوالها ثم أتى في طريقه إلى كوكب ونظر في أحوالها وسد خللها وذلك في يوم الاثنين عاشره. وكان فكاك بهاء الدين قراقوش من ربقة الأسر يوم الثلاثاء حادي عشر شوال ومثل في الخدمة السلطانية ففرح به فرحاً شديداً وكانت له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام واستأذن السلطان في المسير إلى تحصيل القطيعة فأذن له في ذلك وكانت القطيعة على ما بلغني ثمانين ألفاً والله أعلم.ولما وصل السلطان إلى بيروت وصل إلى خدمته البرنس صاحب أنطاكية مسترفداً فبالغ في احترامه وإكرامه ومباسطته وأنعم عليه بالعمق وزرعان ومزارع تبلغ خمسة عشر ألف دينار. وكان قد خلف المشطوب في القدس من جملة العسكر المقيمين به ولم يكن واليه وإنما كان واليه عز الدين جرديك وكان ولاه بعد الصلح حالة عوده إلى القدس بعد أن شاور فيه الملك العادل والملك الأفضل والملك الظاهر على لساني وأشار به أهل الدين والصلاح لأنه كان كثير الجد والخدمة والحفظ لأهل الخير فأمرني السلطان أن أوليه ذلك في يوم الجمعة عند الصخرة ووليته إياه بعد صلاة الجمعة واشترطت عليه الأمانة وعرفته موضع حسن اعتقاد السلطان فيه وانعقد الأمر وقام به القيام المرضي. وأما المشطوب فإنه كان مقيماً بالقدس من جملة من كان مقيماً بها وتوفي يوم الأحد الثالث والعشرين من شوال ودفن في داره بعد أن صلى عليه في المسجد الأقصى رحمه الله.
|